تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

تأملات في ردود الفعل على وفاة قداسة البابا فرنسيس

البابا فرنسيس

بقلم: رفعت قسيس
جاءت وفاة البابا فرنسيس صادمة لكثير من الفلسطينيين – وخصوصًا لأولئك الذين كانوا يشهدون لشجاعته النادرة في إدانة ممارسات إسرائيل ضدهم. فقد ابدى البابا مواقف أخلاقية في زمن عزّ فيه الموقف، وأدان الظلم الواقع على شعبنا بوضوح لم نعهده من كثير من القادة الروحيين، من مختلف المذاهب، أو السياسيين. زيارته لفلسطين وتأكيده على حقوق الشعب الفلسطيني في الاستقلال وتقرير المصير حيث كانت كلماته ومواقفه تحمل كرامة حقيقية، ومثّلت بارقة أمل وسط بحر من الصمت والتواطؤ.
لكن ما كان أكثر صدمة من الخبر نفسه، هو ردود فعل عدد من الفلسطينيين والعرب الذين سخروا من موته، ورفضوا فكرة تقديم التعازي، بل عبّروا عن ذلك بتعليقات مسيئة، إن أردنا أن نُعبّر عنها بلطف. بعض هذه التعليقات حمل كراهية واضحة، ومواقف عنصرية وطائفية ضد الديانة المسيحية، وضد رجل لم يكن عدوًا، بل حليفًا نادرًا لقضيتنا. هذا السلوك يستحق وقفة تأمل جادة – لا من باب الإدانة فقط، بل من باب الفهم. لأن من العار أن يُمارس شعب يرزح تحت الاحتلال الاستعماري والتمييز العنصري، عنصرية وكراهية تجاه الآخرين، بغض النظر عن مواقفهم، فضلًا عن أن يكونوا من القلائل الذين وقفوا إلى جانبنا.
لماذا هذا السلوك؟ باعتقادي هناك عدد من الأسباب لا أستطيع حصرها في هذا العجالة لكني سأذكر بعض منها والتي اعتقد بانها مهمة ومناسبة لهذا الحدث منها جراح التاريخ وبعض الرواسب التاريخية المعقدة، التي ما زالت تؤثر في وعي الشعوب العربية. كثيرون في المنطقة ما زالوا ينظرون إلى المؤسسات والكنائس الغربية – وخاصة الفاتيكان – من منظور الحملات الصليبية، والتبشير الاستعماري، والخذلان الأوروبي ودورهم الحالي وفي مراحل الاستعمار القديم، والصمت التاريخي للفاتيكان حيال بعض قضايا الظلم في العالم ومنها صمتها ازاء نكبة فلسطين. هذه الصور، رغم تعقيدها وظلمها في بعض الأحيان، ما زالت تؤثر على وجدان الناس وتُشكّل ردود أفعالهم. 
هذا بالإضافة الى بعض الحملات الغربية وغير الغربية المهاجمة للإسلام والمسلمين والهادفة لنزع "إنسانية" الإسلام ووصفه بدين إرهابي وغير مسالم، الامر الذي أدى الى اضطهاد المسلمين أنفسهم خاصة في بعض مناطق اللجوء في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها.
ناهيك عن تصاعد التيارات القومية المتطرفة والتيارات الإسلامية المتشددة، خاصة في بعض الدول العربية المحافظة حيث أصبح احترام الآخر، الديني كان او الاثني، أضعف بكثير من ذي قبل. وبدلا من رؤية في البابا فرنسيس رمزًا أخلاقيًا أو قائدًا روحيًا ذا مواقف إنسانية، اختزله البعض وطبعه بكونه "مسيحيًا"، وأُسقطت عليه قرون من الوجع والاستعمار والانقسامات السياسية والطائفية، دون النظر إلى مواقفه الفعلية.
وفي حرب الإبادة هذه، يعيش الفلسطينيون حالة من الإحباط والغضب العميق من الصمت الدولي، والنفاق الغربي، وازدواجية المعايير في التعامل مع حقوق الإنسان. هذا الغضب شرعي وله مبرراته، لكنه أحيانًا يُوجَّه بشكل خاطئ. وحين يتحدث أحد القادة العالميين مثل البابا فرنسيس بنزاهة، لا يتم تمييزه عن الآخرين، بل يُعامل كأنه جزء من المنظومة، فيتم استهدافه ضمن موجة عامة من الغضب المكبوت.
والاهم من كل ذلك يتمثل في ثقافة وسائل التواصل والسخرية كموقف سياسي حيث سمحت بيئة الإنترنت، وخاصة في عالمنا العربي، ان تُكافئ السخرية والتهكم أكثر مما تكافئ التفكير النقدي أو المواقف الواعية النبيلة. ومع ضعف او غياب الوعي الديني والتاريخي عندنا، تتحول ردود الفعل إلى شعارات غاضبة، فيها من العدمية والعنصرية ما يُهدد جوهر القضية، ومن الجهل ما يُفرغ المواقف الأخلاقية من مضمونها.
لماذا هذا مهم؟
نحن كشعوب عربية وكشعب فلسطيني، نعاني من الاحتلال والتمييز والفصل العنصري، لا يجوز لنا أن نُمارس او ان نعيد انتاج نفس الأدوات التي تُستخدم او استخدمت ضدنا. هذا ليس فقط موقفًا أخلاقيًا، بل ضرورة استراتيجية أيضًا. لأن من يعاني الظلم يجب أن يكون أكثر حرصًا على رفض الظلم أينما كان، لا أن يُعيد إنتاجه.
علينا أن نتذكر دائمًا أن ليس كل من يصمت عدونا، وليس كل من يتكلم معنا ولصالحنا هم ملائكة. لكن حين يتحدث أحدهم بشجاعة، في زمن الصمت، فعلينا أن نُميّز هذا الصوت ونكرّمه، لا أن نُهاجمه. البابا فرنسيس كان من القلائل الذين تجرؤوا على الوقوف مع المظلوم، وهذا يستحق التقدير، حتى ولو اختلفنا معه في قضايا أخرى.
من المُخجل حقا، لنا كشعب تحت الاحتلال، أن نستخدم لغة نزع الإنسانية التي تُستخدم ضدنا. أن نقع في فخ الطائفية والعنصرية هو خيانة لقضيتنا العادلة. والمقاومة الحقيقية لا تكون فقط بالسلاح أو الكلمة، بل بالموقف الأخلاقي والاتساق الإنساني.
ما الذي يمكن فعله؟
التربية على الحوار الديني والاحترام المتبادل: نحن بحاجة إلى برامج ومناهج تربوية ومساحات للنقاش تُساعد الجيل الجديد على فهم الآخر، وعلى التفريق بين الانتقاد السياسي وخطاب الكراهية الديني، وعلى التعرف على الصفحات المشرقة والمشرفة من التعاون والتعايش الإسلامي-المسيحي، خاصة في فلسطين، وعلى نضالات الفلسطينيين المسيحيين وتاريخهم ومشاركتهم في بناء مجتمعهم ونهضته، حيث كان المسيحيون دومًا جزءًا أصيلًا من النسيج الوطني والنضالي.
تكريم من يقف معنا – دون تبجيل ولا تجاهل: حين يتحدث قادة او اشخاص، مسيحيين، مسلمين او يهود او يتخذون مواقف مؤيدة لحقوقنا ولعدالة قضيتنا مثل البابا فرنسيس، علينا أن نُقدّر هذا الموقف، لا أن نُعامله بجفاء أو نكران. ولا يعني ذلك أن نتبنى مواقفه في كل شيء، لكن أن نحترم من يحترم إنسانيتنا، هو أيضًا فعل مقاوم.
التحلي بالقيم التي ننادي بها: قوتنا ليست فقط في مقاومة المحتل، بل ضد كل ما يشوه انسانيتنا وفي دعوتنا لمستقبل مصبوغ بالعدالة والحرية والكرامة. فلا بد أن نكون أول من يُجسّد هذه القيم في سلوكنا ومواقفنا. علينا ان نكون التغيير الذي نطمح له!
لدينا الحق الكامل في أن نغضب من عالم قاس يستهين بدمائنا وحقوقنا، لكن لا يحق لنا أن نصبح نسخة من هذا العالم الظالم الذي نقاومه. قداسة البابا فرنسيس لم يُحرر فلسطين – لكنه انحاز للمظلومين. وهذا وحده يستحق كل الاحترام.