
بقلم: مجدي الشوملي عن جريدة القدس.
بعد 600 يوم من السابع من أكتوبر بلغ عدد التظاهرات في أوروبا 34 ألف مظاهرة مؤيدة لفلسطين ومطالبة بوقف الحرب على غزة. وانطلقت هذه التظاهرات في 20 دولة أوروبية موزعة على 644 مدينة.
وعلى سبيل المثال وبحسب المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام فإن 5723 تظاهرة حدثت في 124 مدينة مختلفة في ألمانيا خلال ال 600 يوما، أي بمعدل 46 مظاهرة لكل مدينة، وهذا يعني بالمعدل تظاهرة واحدة كل 13 يوماً في كل مدينة. وفي اسبانيا 4859 تظاهرة في 127 مدينة أي بمجموع 38 تظاهرة لكل مدينة، أي بمعدل تظاهرة واحدة كل 16 يوم لكل مدينة، مع العلم بأن بعض المدن تتظاهر بشكل يومي، والبعض مرة كل شهرين. وهذه الأرقام متقاربة في جميع الدول الأوروبية العشرين.
وفي الظروف العادية فإن عدد المشاركين في التظاهرات بالمعدل قد يصل إلى 300 متظاهر، مع أن عدد المشاركين في تظاهرة لندن يوم 17 أيار 2025 قد بلغ 400 ألف مشارك. ولكن سوف يتم استخدام الرقم 300 شخص/تظاهرة للتوضيح والمقارنة.
بحسب علم الاتصال والعلاقات العامة فيما يتعلق بالتمثيل النسبي لهذه الأعداد فإن كل متظاهر عادة ما يمثل 50-100 شخص من المجتمع؛ هؤلاء لم يتواجدوا في التظاهرات لسبب ما: المرض، الخوف من الأحداث، الانشغال، صعوبة التنقل، الخوف من التعبير.
وبحسب علم الاتصال فإن تكرار التظاهرات لنفس الموضوع يقلص من قدرتها على التأثير، أي أن تمثيل عدد المتظاهرين لن يكون في حده الأقصى (أي 100). كذلك الأمر فإن تكرار نفس الأشخاص في نفس التظاهرات ينعكس سلباً على مقدار تمثيل عدد المتظاهرين. وأيضاً فإن جزءاً كبيراً من المشاركين في التظاهرات هم من أصول شرقية وعربية وفلسطينية، وهذا أيضاً يخفض مقدار تمثيل المتظاهرين في مجتمعاتهم بحسب علم الاتصال.
وبالتالي، وبعد الأخذ بالاعتبار النقاط المذكورة سابقاً؛ فإنه في تقديري يمكن اعتبار ان التمثيل الصامت لكل متظاهر هو 15، وهو الرقم الأنسب والحد الأدنى الذي يمكن استخدامه واعتماده في تقدير حجم تمثيل التظاهرات التي جرت في أوروبا (دون وجود عوامل أخرى سأوضحها لاحقاً). وعليه فإن 34000 تظاهرة بمشاركة 300 شخص في كل تظاهرة سوف يعني أن 150 مليون من أصل 750 مليون مواطن أوروبي يدعمون التظاهرات، وهذا لا يعني أن ال 600 مليون الباقين يقفون ضد التظاهرات. حيث يتبين من الجهة الأخرى عجز إسرائيل وأصدقائها عن تنظيم تظاهرات ملموسة في أوروبا، وهذا بسبب عدم القدرة على الاقناع وضعف الحجة وسقوط الرواية وعدم القدرة عن انكار أو تبرير حرب الإبادة.
ومقابل الانخفاض في تأثير التظاهرات الناجم عن الأسباب المذكورة سابقاً فإن هناك عوامل إضافية ساهمت في رفع تأثير هذه المظاهرات. فقد لوحظ أن القائمين على التظاهرات والاحتجاجات واعون لأهمية عدم تكرار نفس التظاهرة في نفس الموقع وبنفس الأسلوب. وتجنباً لحدوث رتابة في التظاهرات وتضاؤل تأثيرها على المجتمع فقد تم ادخال الكثير من التغيّرات على شكل وشعارات هذه التظاهرات بين حين وآخر. وعلى سبيل المثال تم ادخال شعارات جديدة تتعلق بتصدير السلاح والمقاطعة. كما تم استخدام الدمى في التظاهرات مثل دمية نتنياهو المطلوب للعدالة، والدراما لتصوير أعمال القتل والاعتقال، والحركات الايمائية مثل وضع أحذية أطفال في ساحة ما لتوضيح أن أصحاب الأحذية قد استشهدوا، أو الاستلقاء على الأرض مع تلطيخ الملابس باللون الأحمر لتبيان حجم المجازر. وانتشرت في فترة أعياد الميلاد صورة مجسم الطفل يسوع في بيت لحم وحوله ركام المنازل المدمرة، وتم استخدام الملابس الحمراء في تظاهرة هولندا الشهيرة التي شارك فيها أكثر من 100 ألف متظاهر يلبسون اللون الأحمر في ظاهرة تعتبر الأولى من نوعها. ومن أطرف ما تم ابداعه هو صوت بكاء/صراخ امرأة (صوت فقط) على مكبرات الصوت في تظاهرة باريس مؤخراً، ومن الواضح أن منفّذ هذا العمل على درجة عالية من الاحتراف الفني والسياسي، وقد ساد صمت رهيب ومؤثر خلال عرض هذا الشريط.
كذلك تم استغلال المناسبات الفنية والرياضية والأكاديمية في التظاهرات. ففي حفلات التخرج تجري منافسات بين الطلاب لاستنباط أفكار جديدة للتعبير عن التضامن مع فلسطين ولوقف الحرب على غزة. وكثرت مقاطعة المتحدثين من المسؤولين الحكوميين والأكاديميين الذين لهم علاقة بحرب الإبادة أو الذين لاذوا بالصمت. وصار من المتوقع رفع الأعلام الفلسطينية في بعض المباريات الرياضية وترديد الشعارات. كما تم تشكيل السلاسل البشرية وقطع الطرقات.
وتم استضافة عدد من المتحدثين والمؤثرين لمخاطبة المتظاهرين من المجتمع الأوروبي والعربي والفلسطيني. كما تم ادخال الغناء والدبكة في التظاهرات، وهذا أعطى بُعدا آخر وشكلاً متجددا للتظاهرات.
وتم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة. حيث يقوم مئات المشاركين بتصوير التظاهرة كل من زاويته، فتنتشر عشرات الصور لنفس التظاهرة ولكن من زوايا مختلفة، فتبدو وكأنها تظاهرات مختلفة، وتنتشر هذه الصور على جميع وسائل التواصل الاجتماعي (خمسة أو أكثر) وهذا يزيد من تأثير هذه التظاهرات.
وفي ذكرى النكبة جرت مظاهرات في مئات المدن الأوروبية وكانت الفرصة للتركيز على مرور 77 سنة على النكبة ونتائجها، إضافة للتركيز على غزة، أي أن موضوع التظاهرة لم يكن هو غزة فقط. كذلك تتصدر التظاهرات شعارات مختلفة مثل وقف تصدير الأسلحة لإسرائيل، أو مقاطعة منتجات اسرائيل، أو مقاطعة مطاعم أو شركات تدعم الحرب. وهذا كله منع تكرار نفس التظاهرة؛ والرتابة في الشكل.
وتم استخدام البوسترات بطريقة إبداعية لإبراز قرارات مجلس الأمن ومحكمة الجنايات الدولية وصور الدمار والشهداء وخاصة الأطفال. ومن الممارسات الإبداعية أيضاً استخدام الطائرات الورقية لرفع العلم الفلسطيني والشعارات والصور. ومؤخراً تم تنظيم رالي هند رجب للدراجات في لندن، وبرزت فلسطين في مهرجان كان، وانطلقت التظاهرات ضد مشاركة إسرائيل في مسابقة اليورو فيجن في سويسرا.
وشارك عدد كبير من الفنانين والإعلاميين في التظاهرات بأشكال مختلفة، مثل ريتشارد غير والمغني الأمريكي ماكليمور في جولته في أوروبا، والناشطة السويدية غريتا ثانبرغ التي شاركت في أسطول الحرية الذي قصفته إسرائيل مؤخرا. وفرقة Kneecap الأيرلندية، والمغني Lowkey. والمغني روجر ووترز، كما لوحظ التغيّر في لغة الإعلامي الشهير بيرس مورغان وأصبح شديدا في تقبل الحجج المؤيدة لإسرائيل.
الابداعات كثيرة في شكل التظاهرات التي تجري في أوروبا وأمريكا وغيرها. هذه الابداعات قد أعطت نتائجها في زيادة التأثير على المجتمعات وعلى الحكومات أيضاً، ويمكن القول إن هذا التأثير يمكن أن يرفع التمثيل الصامت أو التمثيل الرمزي للمتظاهرين إلى 30 بدل 15، وهذا يعني أن المتظاهرين في الشوارع والساحات يمثلون 300 مليون أوروبي من أصل 750 مليون، أي نصف سكان أوروبا، وهذا هو فقط السبب الذي أدّى إلى تغيّر في المواقف السياسية في أوروبا.
الأسابيع القادمة هامة فيما يتعلق بالتظاهرات وخاصة في أوروبا. فقد بدأنا نلاحظ نتائج هذه التظاهرات وكيف بدأت تؤثر في القرارات السياسية مثل وقف تصدير الأسلحة لإسرائيل وفرض العقوبات الاقتصادية والتهديد بقطع العلاقات والاعتراف بدولة فلسطين، ولذلك فإن أي تراجع لهذه التظاهرات يمكن أن يعطي الذريعة للحكومات الأوروبية للتراجع أيضاً.
إذا ما استمرت هذه التظاهرات وتنوعت أشكالها وتعددت مواقعها وازداد استخدام وسائل إبداعية جديدة، مع تغطية إعلامية مكثفة وخاصة ضمن وسائل التواصل الاجتماعي؛ فإن زخم هذه التظاهرات سوف يواصل دورانه ويعطي نتائج سياسية على أرض الواقع ومنها الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.