
الطيبة- نبض الحياة: كتب الأب فارس سرياني في عيد قلب يسوع الأقدس:
شَهرُ حُزيران شَهرٌ مُخَصَّصٌ لِعِبَادَةِ قَلبِ يَسوعَ الأقدس. كَمَا هوَ شَهرُ أَيّار الْمُخَصَّصِ لإكرامِ أُمِّنَا مَريمَ العَذراء، وَشَهرُ تَشرينَ الثّاني الْمُخَصّصِ لِلصّلاةِ مِنْ أَجلِ الْمَوتَى. فَلِمَاذَا تَخصُّ الكَنيسَةُ قَلبَ يَسوع، بِكُلِّ هَذَا الإكرام؟! بِدايةً القلبُ هوَ مركِزُ الحياةِ الإنْسَانِيَّة، وهوَ العُضوُ الَّذي لا يَتَوقَّفُ يَومًا عنِ النَّبضِ، منذ لحظةِ الوَلادَةِ وَحَتّى سَاعةِ الْمَمَات، وَمِنَ الْمَهدِ إلى الَّلحدِ، جاعِلًا الحياةَ تَسري في عُروقِنَا.
لَيسَ ذَلِكَ فَحَسب، فَالقَلبُ أَيضًا بالْمَعنى الْمَجَازيّ، مَصدرُ العَواطِفِ والْمَشَاعرِ الإنسَانيّة. فَنَقولُ مَجازًا: "قَلبي يَقفِزُ مِنَ الفَرَح". وَنَقولُ أَيضًا: "قلبي تَمزّقَ مِن الحُزن". وَتَبقَى الْمَحبَّةُ أَسمى تِلكَ الأحاسيس. حَيثُ أَبدَعَ الشّعراءُ وَالأدُبَاءُ في وَصفِ هَذا الشُّعورِ الإنسَانيِّ النَّبيل، جاعِلينَ مِنَ القَلبِ مَنْبَعًا لَهُ. فَهَا هوَ عَنترةُ بنُ شَدّادٍ يَقول: سَلا القَلبُ عَمَّا كَانَ يَهوى وَيَطلُبُ وَأَصبَحَ لا يَشكو وَلا يَتَعَتَّبُ
وَإِذَا انْتَقَلنا إلى الكتابِ الْمُقَدّس، وَجَدنَا الأهميّةَ الّتي يُعطيهَا الوَحيُ للقَلبِ. فَفي العَهدِ القَديم، نَجِدُ لِلقَلبِ مَعانٍ عَديدَة، فهوَ يُعبِّرُ:
- عَن مَحبّةِ اللهِ وَرحمَتِهِ نحوَ شَعبِه، فَيقولُ في سِفرِ هُوشعَ النّبيَ: ﴿قَدْ انقلبَ فيَّ فؤادي، واضْطَرَمت أَحشَائي. لا أُطلِقُ حِدَّةَ غَضَبي﴾ (8:11-9).
- عَن الْمَحبّةِ الصّادِقَةِ الّتي يطلُبُها اللهُ مِن الإنسان، فيَقولُ في سِفرِ تَثنيةِ الاشتراع: ﴿أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبِكَ، وكلِّ نَفسِكَ، وَكلِّ قُوَّتكَ. وَلْتَكُنْ هَذهِ الكَلِماتُ الَّتي أَنا آَمُرُكَ بِها اليَومَ في قَلبِكَ﴾ (5:6-6).
- عَن جَوهرِ الإنسانِ الحقيقيِّ وَمَكنونَاتهِ الخَفيّة، تِلكَ الّتي يَعلَمُهَا الرّب، فَيَقولُ في سِفرِ صَموئيل الأوّل: ﴿لأنَّ الرّبَّ لا يَنظُرُ كَمَا يَنْظُرُ الإنسَان، فَإنَّ الإنسَانَ إنّما يَنْظُرُ إلَى الْمَظاهِر، وَأمَّا الرّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلى القَلب﴾ (7:16).
- عَن التَّجديدِ الّذي يُجريهِ اللهُ في حَياةِ الإنسَان، فَيَقولُ في سِفرِ حزقيالَ النّبيّ: ﴿وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وأَنْزِعُ مِن لَحمِكُم قَلْبَ الحَجَر، وَأُعطيكُم قَلبًا مِن لَحم﴾ (26:36).
- عَن مَشاعرِ التّوبَةِ والنّدامة، الّتي يُبدِيهَا الخاطِئُ طَلبًا لِرَحمةِ الله، فَيقولُ في سِفرِ الْمَزامير: ﴿قلبًا طاهِرًا أُخلُقْ فيَّ يا الله، ورُوحًا ثابِتًا جَدِّدْ في باطِني﴾ (12:50).
- عَن الابتِهاجِ في الرّبِّ الْمُخَلِّص، فَيقولُ في سِفرِ الْمَزامير: ﴿لِذلِكَ فَرِحَ قَلبي وابْتَهَجَت نَفسي، لأنّكَ لَنْ تترُكَ في مَثوَى الأمواتِ نَفسي﴾ (9:15-10).
- عَن حِفظِ وَصايا الربِّ والعَملِ بِها، فَيقولُ في سِفرِ الأمْثَال: ﴿يَا بُنَيَّ، لا تَنْسَ شَرِيعَتِي، وَلِيَحْفَظْ قَلْبُكَ وَصَايَايَ﴾ (1:3).
- عَن الاتّكالِ الكَامِلِ عَلَى الله وَالثّقةِ بِه، فيقولُ في سِفرِ الأمثال: ﴿تَوكَّل عَلَى الربِّ بِكُلِّ قَلبِك﴾ (5:3).
أَمَّا في العَهدِ الجَديد، فَنَجِدُ مِنَ البِدَايةِ صُورَةَ أُمِّنَا مَريمَ العَذراء الّتي كانَت: ﴿تَحفَظُ تِلكَ الأمورِ كُلِّهَا في قَلبِها﴾ (لوقا 51:2). فالقَلبُ يُمثِّلُ مَوضِعَ التأمُّلِ في الأمورِ والوَصايا الإلهيّة. بالإضافةِ إلى أَنَّهُ "الْموقِدُ" حَيثُ يَشتعِلُ الإيمان. كَمَا يَقولُ تِلميذَا عِمَّاوس: ﴿أَمَا كَانَ قَلبُنَا مُتَّقِداً في صَدرِنا، حينَ كَانَ يُحَدِّثُنا في الطَّريق، ويَشرَحُ لنا الكُتُب؟﴾ (لوقا 32:24).
وَالْمَسيحُ بِدَورِهِ طَوّبَ: ﴿أَطهارَ القلوب، فإنّهم يُشاهِدونَ الله﴾ (متّى 8:5). وَهوَ يَدعونَا أَيضًا لِلتَّتلمُذِ لَهُ، لِأنّهُ: ﴿وديعٌ متواضِعُ القَلب﴾ (متّى 29:11). فَاللهُ يا أَحِبَّة، يُنعِمُ عَلَى الْمُتَواضِعين، بَينَما: ﴿مُتَشامِخُ العَينِ مُنتَفِخُ القَلبِ لا أُطيقه﴾، كَمَا يَقولُ في سِفرِ الْمَزامير (5:100). ذلِكَ أَنَّ: ﴿القديرَ شَتَّتَ الْمُتَكبّرينَ في قلوبِهم﴾، مِثلَمَا أَنشَدَتْ مَريم (لوقا 51:1).
مِنْ نَاحيةٍ أُخرى، يُبيّنُ لَنَا الْمَسيحُ أَنَّ القَلبَ قَدْ يَكونُ مَصدَرَ الشّرِّ، فَيَقول: ﴿مِنَ القَلبِ تَنبَعِثُ الْمَقاصِدُ السّيئةُ، والقَتلُ والزِّنَى والفُحشُ، والسّرِقَةُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ والشَّتَائِم﴾ (متّى 19:15). مُؤكِّدًا مَا جَاءَ بهِ سِفرُ الْمَزاميرِ قائِلًا: ﴿تُوَسوِسُ الْمَعصِيةُ لِلشَريرِ في صَميمِ قَلبِه، فَإِنَّ مَخافةَ اللهِ لَيسَت نُصبَ عَينَيه﴾ (2:36). وَأَيضًا يُعبّرُ القَلبُ عَنِ القسوَةِ الّتي قَدْ تَعتمِرُ نُفوسَ النّاس. فَفي حَادِثةِ شِفَاءِ الأشلِّ اليَد، غِضبَ يَسوعُ مِن مَوقِفِ اليَهودِ، مُفَضّلينَ أَنْ يَبقَى الرّجلُ مَشلولًا، عَلَى أَنْ يُشفَى يَومَ السّبت. ﴿قالَ لَهُم يَسوع: «أَعَمَلُ الخَيرِ يَحِلُّ في السَّبتِ أَم عَمَلُ الشَّرّ؟ أَتَخليصُ نَفسٍ أَم قَتلُها؟». فَظَلّوا صامِتين. فَأَجَالَ طَرفَهُ فيهِم مُغضَبًا مُغتَمًّا لِقَساوَةِ قُلوبِهِم﴾ (مرقس 4:3-5).
والْمَسيحُ الرّب، يَعلَمُ مَا تُضمِرُ قلوبُ النّاس، فَنَسمعُهُ يُخاطِبُ رُؤسَاءَ اليهودِ، في حادِثَةِ شِفاءِ مُقعَدِ كَفرناحوم، مُوبِّخًا: ﴿لِماذا تُفكّرونَ هَذا التّفكيرَ في قلوبِكم؟﴾ (لوقا 22:5). فالْمَسيحُ هوَ: ﴿الرّبُّ يَفحَصُ القلوب، فَيُجزِيَ الإنسانَ بِحَسَبِ طُرُقِهِ وَثَمرِ أعمالِه﴾، كَمَا يَقولُ عَلى لِسانِ إرميَا النّبيّ (10:17).
وفي الرّسائِل أيضًا، نَرَى الأهميّةَ الّتي تُولِيهَا لِلقَلب. فَيَقُولُ بولسُ الرّسول في رسالتِه إلى أَهلِ رومة: ﴿الإيمانُ بالقلبِ يُؤدّي إلى البرِّ﴾ (10:10). فَفي القَلبِ، أَي في صَميمِ الإنسان، يُولَدُ الإيمانُ ويَنْشَأ. كَمَا أَنَّ القَلبَ هوَ مَسْكِنُ الرّوحِ القُدس، الّذي يجعلُ مِنّا أَبنَاءَ الله، فَيقولُ بولسُ في رِسَالتِه إلى أَهلِ غَلاطِيَة: ﴿والدّليلُ عَلَى كَونِكُم أَبنَاء، أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِهِ إلى قُلوبِنَا، الرّوحَ الّذي يُنادي: "يا أَبَتِ"﴾ (6:4). والقَلبُ أَيضًا مُقامُ الْمسيحِ، كَما يقولُ بولسُ في رسالتِهِ إلى أهلِ أَفَسس: ﴿أنْ يُقيمَ الْمَسيحُ في قلوبِكُم بالإيمان﴾ (17:3). والقَلبُ مَقرُّ السَّلامِ الحَقيقيِّ النَّابِعِ مِنَ الله، كَمَا يقولُ يوحنّا الرسولُ في رسالتِه الأولى: ﴿إذا كَانَ قَلبُنَا لا يُوبِّخُنا، كانَت لَنا الطُّمَأنينَةُ لَدى الله﴾ (1يو 21:3).
وَعَليه، وَمِنْ خِلالِ هَذهِ الشَّوَاهِدِ الكِتَابِيّة، نَجِدُ أَنَّ القَلبَ يُمثِّلُ أَغلَى مَا في الإنسان، فَهوَ: سَببُ استِمرارِ حَياتِهِ البَشَريّة، وَهوَ أَيضًا مَركِزُ حَياتِهِ الرُّوحيّة، وَاتّحادِهِ العَميقِ بالله. وَبَما أنَّ الإنسانَ مَخلوقٌ عَلَى صُورةِ الله، فَقَلبُ الإنسانِ، بِكُلِّ عَنَاصِرهِ وَمَعانيِهِ الطّيبَة، هوَ امْتِدادٌ لِقَلبِ الله، الّذي يُحِبُّنَا ويحفَظُنا وَيَرعَانا. وَلأنّ اللهَ هوَ غَايَتُنا القُصوَى، فَهوَ كَنزُنا الأثمن: ﴿فَحيثُ يكونُ كَنزُكم يكونُ قَلبُكُم﴾ (لوقا 34:12).
فَطُوبى يا أَحِبَّة للإنسانِ الّذي عَلّقَ قَلبَهُ في الله، النَّصيبِ الأفضل. وَهَذَا يُذكِّرنا بِكَلمَاتِ الأديبِ جُبران خَليل جُبران، في كِتَابهِ النَّبيّ: ((أَمَّا أَنت إذا أَحبَبت فَلا تَقُل: "إنَّ اللهَ في قَلبي"، بَل قُل بالأحرَى: "أَنا في قَلبِ الله")). يا قلبَ يسوع الأقدَس، اِرحَمنا